أزمة سوق العقارات في الصين تعد من أكثر الأزمات الاقتصادية تعقيداً في تاريخ البلاد الحديث، مع تفاقمها في 2024. أحدث البيانات تشير إلى أن أسعار المنازل الجديدة انخفضت بنسبة 0.73% في أغسطس مقارنة بانخفاض 0.65% في يوليو، بينما تراجعت أسعار المنازل المستعملة بنسبة 0.95%. هذه الأرقام تعكس حجم التحديات التي يواجهها السوق العقاري، خاصة مع الانخفاض المستمر في الطلب، مما يؤثر على الاقتصاد الصيني بشكل عام.
جذور الأزمة
انطلقت أزمة العقارات من انهيار شركات كبرى مثل “إيفرغراند”، التي كانت تحمل ديوناً تزيد عن 300 مليار دولار. اعتمدت الشركة، التي كانت من بين أكبر المطورين العقاريين في العالم، على نموذج يقوم على بيع المنازل قبل إتمام البناء واستخدام تلك الأموال لتغطية مشاريع أخرى. لكن مع تشديد الحكومة الصينية على قوانين الاقتراض، تعثرت العديد من هذه الشركات في سداد ديونها، مما أدى إلى توقف آلاف المشاريع السكنية غير المكتملة. وبلغت ديون شركة “كونتري جاردن” 200 مليار دولار، مما زاد من تفاقم المشكلة.
الأزمة العقارية لم تقتصر على هذه الشركات فحسب، فقد شهدت الصين ارتفاعًا هائلًا في مخزون العقارات غير المباعة. بلغت مساحة العقارات السكنية غير المباعة حوالي 5.2 مليار متر مربع في أبريل 2024. وعلى الرغم من جهود الحكومة للحد من هذه الأزمة، بما في ذلك تخصيص تسهيلات بقيمة 300 مليار يوان للمساعدة في شراء المنازل غير المباعة، إلا أن هذه التسهيلات تغطي فقط 5% من المخزون المتاح.
خسائر المشترين والدروس المستفادة
تكبد المشترون الأفراد خسائر هائلة نتيجة لهذه الأزمة، حيث دفع العديد منهم مقدمات تتراوح بين 30% و50% للحصول على منازل لم تُبنى بعد. ومع تعثر الشركات العقارية، تم إيقاف عدد كبير من المشاريع، مما دفع بالمشترين إلى “تمرد الرهن العقاري” حيث أوقف العديد منهم دفع أقساط الرهن العقاري بسبب عدم استلام المنازل. هذه الحالة استمرت حتى 2024 مع استمرار انخفاض الأسعار وزيادة المخاوف بشأن مزيد من التدهور. تشير التقديرات إلى أن مبيعات أكبر 100 مطور عقاري انخفضت بنسبة 39.7% في يوليو 2024 مقارنة بالعام السابق.
التأثير الاقتصادي الأوسع
يمثل قطاع العقارات حوالي 20-30% من الناتج المحلي الإجمالي للصين، ويؤدي التباطؤ في هذا القطاع إلى تأثيرات واسعة على الاقتصاد ككل. استثمارات العقارات انخفضت بنسبة 9% في النصف الأول من 2024 مقارنة بالعام السابق. كما أن أسهم الشركات العقارية تراجعت بأكثر من 40% منذ مايو 2024. هذا التراجع أثر بشكل مباشر على أهداف الحكومة الصينية لتحقيق النمو الاقتصادي في ظل تحديات أخرى مثل التباطؤ في التصنيع والضغط على القطاع المالي.
تأثيرات على القطاعات الأخرى
- القطاع المالي: انهيار شركات كبرى مثل “إيفرغراند” و”كونتري جاردن” أدى إلى تعثر في سداد الديون، مما أثر بشكل مباشر على البنوك والمصارف التي كانت تعتمد على قروض الرهن العقاري. هذا أدى إلى تقلص في الإقراض، مما أثّر على القطاعات الأخرى التي تعتمد على التمويل لتسيير أعمالها.
- قطاع الإنشاءات: مع توقف المشاريع العقارية غير المكتملة، تأثر قطاع الإنشاءات بشكل كبير. تم إيقاف العديد من المشاريع التي كانت توفر وظائف لملايين العاملين في هذا القطاع، مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة وتأثير سلبي على دخل الأسر.
- قطاع السلع والخدمات: تراجع الطلب على العقارات أدى إلى انخفاض في استهلاك السلع المرتبطة بالعقارات مثل مواد البناء، الأثاث، والخدمات اللوجستية. كما أن الانخفاض في أسعار العقارات أثّر على ثقة المستهلكين، مما دفعهم إلى تقليل إنفاقهم على السلع والخدمات الأخرى.
- الحكومات المحلية: تعتمد العديد من الحكومات المحلية في الصين على بيع الأراضي كمصدر رئيسي للإيرادات. ومع تباطؤ مبيعات العقارات، انخفضت عائدات هذه الحكومات، مما أدى إلى أزمة في تمويل المشاريع العامة والبنية التحتية.
الدروس لصناع القرار
كشفت الأزمة عن الحاجة إلى تدخل حكومي مبكر ورقابة أكثر صرامة على المطورين العقاريين. النموذج القديم الذي يعتمد على الاقتراض غير المنضبط والاستثمار في مشاريع غير مضمونة أظهر مخاطره. وبالرغم من أن الحكومة اتخذت خطوات لتخفيف العبء مثل خفض أسعار الفائدة على الرهون العقارية وتقليل متطلبات الدفع المقدمة، إلا أن تأثير هذه الإجراءات ظل محدوداً، حيث لا تزال التحديات الرئيسية قائمة.
حتى المبادرات الحكومية مثل شراء المنازل غير المباعة وتحويلها إلى مساكن ميسرة لم تكن كافية لحل المشكلة بشكل كامل، خاصة وأن هذه المبادرات تغطي نسبة صغيرة جداً من المخزون المتاح وتواجه تحديات في التنفيذ.
أزمة سوق العقارات في الصين والمستقبل المتوقع
على الرغم من التدخلات الحكومية المستمرة، إلا أن توقعات المحللين تشير إلى أن الفقاعة العقارية في الصين ستستمر لفترة أطول مما كان متوقعًا. التحسن قد يأتي ببطء، خاصة مع توقع استمرار انخفاض أسعار العقارات في ظل ضعف الطلب الحالي. لتحسين الوضع، يجب أن تركز الحلول الحكومية على تحفيز الطلب وتحسين الأوضاع المالية للمشترين، بالإضافة إلى تعزيز الشفافية في القطاع العقاري.
قد يهمك أيضاً: الأزمة الاقتصادية في الصين (مدن فارغة ومراكز تسوق مهجورة).